شكلت القدس ومنذ عصور البشرية الاولى منطقة مقدسة داتر حولها الاستقطاب والصراع والخلاف، ومن المؤكد على صعيد الفكر السياسي الفلسطيني والعربي أن قضية القدس لا تنفصل عن القضية الفلسطينية ككل ، ولان اخذت القضية باجزائها وجوانبها الاخرى الابعاد السياسية والانسانية والفكرية والاقتصادية ، فان مسالة القدس تاخذ البعد الديني العقيدي اضافة الى كل هذه الابعاد، وقد لعبت القدس كما تلعب اليوم الدور الاساسي في تحريك الصراع الاساسي في المنطقة، وحرصت الدول التي مثلت الحضارات التاريخية التي سادت على مر العصور في المنطقة على ان تكون القدس تحت سيطرتها، بل وعاصمة دولها.
حاولت اسرائيل منذ احتلالها الكامل للقدس عام 1967 تغيير البنية الديمغرافية والدينية في المدينة لصالح تغييب الهوية الحضارية الاسلامية والمسيحية عنها لصالح الادعاء التاريخيي لليهود بقدسيتها الدينية لديهم وخصوصا ما يتعلق باعادة بناء الهيكل على انقاض المسجد الاقصى.
ولم تنجح جهود العرب والمسلمين في اصدار قرارات الامم المتحدة المتتابعة لحماية المسجد الاقصى ، كما لم تنجح وساطاتهم لدى الولايات المتحدة واووربا على مدى عقود في ذلك ، في حين ان عملية السلام والاتفاقات التي وقعتها الاردن والفلسطينيون ومصر لم تتمكن من تحقيق أي نوع من الحماية للاقصى والقدس ، بل شجعت الطرف الآخر على مزيد من التهويد واحكام السيطرة
تلعب القدس كذلك دوراً رئيسياً في شرعية فلسطين، لا في نظر الفلسطينيين وحدهم، بل في نظر العرب والمسلمين عموماً. ذلك أن قيام دولة فلسطينية جديدة ليس لها وجود سيادي قادر على الحياة في القدس سوف يفتقر مؤكداً للشرعية الأساسية للدولة في نظر شعبها. ونلاحظ أنه بدون وجود سيادة فلسطينية مؤكدة وموثوقة في القدس، سيؤدي الى أن تعاني الدولة الفلسطينية الجديدة من عجز خطير في السيادة عند شعبها، وهو، بالإضافة لمشكلات أخرى، من شأنه أن يجعل ظهور حكم صالح ودولة مستقرة أمراً صعباً. وفي حال ارتبط قيام الدولة الفلسطينية بحل قضية القدس، كما يؤكد تقرير مؤسسة راند بخصوص بناء دولة فلسطينية ناجحة، فان قيام الدولة اصبح مشكوكا فيه على صعيد التوجهات الاسرائيلية الا بمقاس محدد يسمى "دولة" وما هو بدولة وفق القانون الدولي .
اولا: سياسة الامر الواقع الاسرائيلية بالمصادرة والاستيطان
· مكونات السياسة واهدافها السياسية
تتكون سياسة اسرائيل المتعلقة بالمصادرة والاستيطان وفق ما يلي :
- السعي لمصاردة الاراضي الاميرية المملوكة للدولة اساسا لصالح الجيش والامور العسكرية
- السعي لبناء مستوطنات واسعة ومنتشرة في كل الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عام 1967 بهدف التهويد، واستيعاب المهاجرين
- استملاك ومصادرة الاراضي اللازمة لتشكيل محيط حيوي لمعسكرات الجيش والمستوطنات فيما عرف بالحماية الطبيعية والطرق الالتفافية لتجنب مواجهة اعمال المقاومة
- السعي لاخراج السكان من اراضيهم عبر الضرائب والملاحقات وتدمير المزروعات وخاصة الزيتون
- تشجيع وحماية المستوطنين للسيطرة على الاراضي والاملاك العربية في القدس وغيرها
- بناء واقع من التداخل البشري والاستملاكي مع السكان الاصليين بهدف تطوير الادعاءات التوراتية بملكية الارض وتكريس بعدها الديني والاستراتيجي لاقناع العالم بعدم الضغط على اسرائيل للانسحاب الكامل
- بناء جدار الفصل العنصري لتشكيل سجن كبير للشعب الفلسطيني، ولتحقيق مزيد من السيطرة عليه، ولضم مساحات جديدة من الاراضي والمياه الجوفية
ويتمحور الهدف الاساسي بتحقيق ضم اراضٍ جديدة الى الكيان الاسرائيلي، واستيعاب المهاجرين، والسيطرة على منابع المياه، وتحقيق النبوءات التوراتية الدينية لليهود فيها ، واعتمادها امرا واقعا لا يمكن الرجوع عنه في اي تفاوض سياسي مستقبلي.
· مشاريع الاستيطان والمراحل التي مرت بها
قامت سلطات الاحتلال بعملية استيلاء ومصادرة مبرمجة لاراضي القدس، وقامت ببناء مستوطنات عليها مثلت اطواقاً تحيط بالمدينة، بهدف عزلها عن محيطها العربي وعن ترابطها مع الضفة الغربية تمهيدا لقضمها كليا، واخراجها من مصطلح الضفة الغربية ، والعمل على توفير مساحات تتوسع تدريجيا لاستيعاب المهجرين اليهود لتنفيذ عملية التهويد الديمغرافي.
شكلت هذه العمليات ثلاثة اطواق استيطانية تحيط بالمدينة. وقامت اسرائيل كقوة احتلال باعلان ضم المدينة الى كيانها السياسي رسميا في يوليو 1980 ، لتصبح القدس الموحدة عاصمة ابدية لاسرائيل على حد تعبيرهم ، ( ويقصد بذلك توحيد الجزء الشرقي منها المحتل عام 1967 مع الجزء الغربي المحتل عام 1948)، ولذلك فقد حرصت على اتباع سياسة تقليص التواجد الفلسطيني داخل حدود البلدية الجديدة.
ورافق عمليات مصادرة الأراضي اقرار قانون التخطيط والبناء حيث تم في الفترة ما بين 8/1/1968- 1/2/1995 تم مصادرة 24200 دونم من اراضي القدس، فقد شرعت سلطات الاحتلال مباشرة بعد احتلالها للقدس عام 1967 بتطبيق هذه السياسة بإنشاء مجموعة من الأطواق، تضم الحي اليهودي ، وكان قد خطط للاستيطان اليهودي في القدس أن يكون ركيزةً ينطلق منها المستوطنون إلى سائر أنحاء فلسطين لنشرهم فيها وتوزيع من يُجلب منهم من سائر أنحاء العالم في مناطقها المختلفة بفضل أقدمية المستوطنين اليهود القاطنين في مدينة القدس من حيث الإقامة، وخبرتهم بطبيعة الحياة والمناخ في الارض الفلسطينية، وذلك منذ القرن التاسع عشر، ومع إتمام المخطط الاحتلالي الإسرائيلي، واستصدار القوانين الملزمة كقانون توحيد القدس وعاصمة إسرائيل الأبدية شرعت ادارة البلدية بتنفيذ مشاريع إضفاء الشرعية الإسرائيلية على الأرض، من خلال البرامج الاستيطانية، التي سبقتها إجراءات مصادرة أراضي عرب القدس.
وقد مرت مراحل تهويد المدينة بعدة مراحل بدأت بإعلان مصادرة (116) دونماً من القسم الجنوبي من أحياء البلدة القديمة بحجة المصلحة العامة لإقامة الحي اليهودي الجديد، وبأمر من وزير المالية الإسرائيلي حينها سابير، وهدمت معظم منازل الحي العربي (حارة الشرفة والمغاربة)، وصودرت منازل قدرت بـ (700) مبنى حجري لتقام عليها أحياء استيطانية يهودية، يوم استملك اليهود الممتلكات الشخصية والوقفية للسكان العرب الفلسطينيين، بين حارة الشرفة وحي المغاربة. وانشئت الضواحي اليهودية الجديدة، لتحمل اسم ليفي اشكول الرئيس الأسبق للوزارة الإسرائيلية عام 1969 ،وتكريماً لملكة الدانمارك عام 1970 جنوب القدس، وتخليداً لذكرى يغال آلون أحد قادة الكيان الإسرائيلي عام 1971 ، وتكريماً لأحد الوزراء الصهاينة عام 1971 شمال القدس، وتخليداً لأحد رؤساء الوزارات في الكيان الإسرائيلي عام1974، وهكذا دواليك .
كما أقرت الكنيست الإسرائيلي في يوليو 1980 -بشكل استثنائي- قانوناً جديداً أُدرِج في قائمة (القوانين الأساسية) ينص على أن القدس عاصمة إسرائيل، وقد هدف القانون الى منع أي حكومة إسرائيلية من التوصل لأي اتفاق يمس السيادة الإسرائيلية على القدس.
أساليب المصادرة
مارست سلطات الاحتلال برامج المصادرة وفق مخططات منهجية مقررة مسبقا، ولها ميزانيات خاصة، وابرز اساليب المصادرة التي اتبعتها:
إعادة تصميم الخرائط الهيكلية وإقرارها للحد من النمو العمراني والسكاني للأحياء العربية
الاستملاك بحجة المصلحة العامة:
بقصد إقامة محميات طبيعية أو شق طرف أو تحديد خطوط ضغط عالي
بحجة وجود أماكن أثرية وتاريخية
بحجة توسيع المستوطنات القائمة
وضع اليد على املاك الغائبين
ادعاء ملكية بيوت واراضي معينة خصوصاً بعد الاعتداءات على وثائق المحكمة الشرعية في القدس
ثانيا: انعكاسات حجم المصادرة والاستيطان على مستقبل القدس السياسي
تحول الملكية والوجود العربي لصالح اليهود
يتضح من دراسة الاستيطان في القدس انه حقق الكثير من الوقائع المعقدة تفاوضيا وابرزها سياسة الاطواق ، وسياسة الفصل عن الضفة الغربية ، وسياسة الاخلاء للسكان من اماكن سكنهم ، وسياسة تغيير الطابع الاسلامي والمسيحي ( العربي) عن المدينة، ومحاصرة الاماكن المقدسة وعلى الاخص الحرم الشريف تمهيدا لهدمه وبناء الهيكل، واتباع نظام الاستملاك والهدم بحجج كثيرة ، والاستبلاء على بيوت في الاحياء العربية عبر منظمات متخصصة في هذا العمل مدعومة ومحمية من الحكومة ومحكمة العدل العليا في الكيان . وهو ما يؤثر تاثيرا بليغا على مستقبل القدس السياسي.
لقد أقيمت أحياء جديدة في القدس، كل واحد منها يضاهي مدينة بأكملها، مثل حي "بسجات زئيف" في الشمال وحي "جيلو" في الجنوب في ضواحي بيت جالا، حيث يزيد عدد سكان كل منهما عن 30 ألفاً.
إن مستقبل البلدة القديمة التاريخية بما يرتبط به من تخطيط وإعادة تشكل نسيج من قبل المستوطنين اليهود سيشكل حتماً نسخة طبق الأصل عما جرى لمدينتي يافا وعكا حين تم إجلاء وطرد أكبر عدد من الفلسطينيين قسراً منهما لتتحول هذه المدن إلى مستعمرات فنية ومدن من المتاحف يسكنها اليهود كأغلبية ساحقة.
ولعل نظرة متفحصة في تحول ملكية العقارات في المدينة في محطات ثلاث من عمرها المعاصر ( 1918، 1948، 1967) تؤكد على خطورة نجاح المخططات الصهيونية بتهويد المدينة وانهاء الوجود العربي فيها .
فقد كانت الملكية العقارية في القدس عام 1918 موزعة كما يلي: 94% للعرب (مسلمين ومسيحيين)، 4% لليهود، 2% للأجانب. وفي نهاية الانتداب البريطاني 1948، وبفعل التآمر الاستعماري الصهيوني، ازدادت ملكية اليهود العقارية لتصبح النسبة كما يلي: 84% للعرب (مسلمين ومسيحيين)، 14% لليهود، 2% للأجانب. وبعد استكمال عملية الاحتلال في أعقاب حرب حزيران عام 1967م، وضمها الكامل إلى سلطة الاحتلال الإسرائيلي، أصبحت الملكية العقارية معكوسة تماماً لصالح المستوطنين من الصهاينة أي: 14 % للعرب (مسلمين ومسيحيين)، 84 % لليهود، 2 % للأجانب.
مخططات مستقبلية لتهويد المدينة كاملة
إن نظرة إلى القدس عام 2020 بعد هذا التوسع الذي ستشهده المدينة بفعل المشروعات الضخمة سيغير النظرة القائمة إليها منذ مئات السنين، ولعل أبرز هذه المشاريع تلك التي اوردها المدير العام لجهاز التطوير في بلدية القدس المحتلة (عوزي فكسلر) كما أشار إليها شاحر ايلان، وأهمها:
1- هدم أسوار مدينة القدس القديمة مع تدمير المباني العربية التاريخية المقامة بين ثنايا هذه الأسوار.
2- بناء الهيكل المزعوم على أنقاض هذه المعالم التي يصار إلى هدمها. وفي مقدمتها الحرم القدسي الشريف بمنشآته وأوقافه وساحاته.
3- إنشاء شبكة قطارات كهربائية في قلب المدينة.
4- إنشاء برج مراقبة بارتفاع (250) متراً.
5- إنشاء السوق الكبير (الكنيون) على أراضي قرية المالحة العربية المصادرة منذ عام 1948م الواقعة غرب القدس.
6- تنفيذ مشروع تطوير المركز التجاري في القدس الشرقية بهدف تقطيع أوصال الأحياء العربية خارج الأسوار الواقعة شمالها وغربها واستبدالها بأحياء يهودية.
تحياتي لكم